نقلا عن جريدة التجديد العربي
يتوقع الخبراء الدوليون أن يشهد العالم استمراراً في ارتفاع أسعار المواد الغذائية خلال العام الجديد 2008 بعد أن شهد في العام الماضي 2007 موجة تضخّم رفعت أسعار القمح (على سبيل المثال لا الحصر) بنسبة 90%! وقد عزا الخبراء هذا الارتفاع إلى ازدياد الطلب على المواد الغذائية من قبل الصين والهند، غير أن السبب الحقيقي الحاسم يعود إلى التوجّه المخيف الذي بدأته الولايات المتحدة بقوة نحو استخدام الوقود الحيوي النباتي المصدر كمساعد أو بديل للوقود الأحفوري (النفط والفحم) الذي بات يعاني أزمة إنتاج وبالتالي أزمة أسعار!
لكن المشكلة الكبرى، كما يقول الخبراء، أنه حتى لو جرى تحويل الإنتاج الكامل من الحبوب في الولايات المتحدة إلى وقود للسيارات الأميركية فقط فإنه لن يغطّي أكثر من 16% من حاجتها إلى الوقود! ولنا أن نتخيّل ما سوف ترتكبه الاحتكارات الأميركية من جرائم مروّعة كي تؤمن احتياجاتها من الوقود الحيوي، حيث ستتحكّم بالمحاصيل الزراعية العالمية كمصدر للوقود هذه المرّة!
وهكذا فإن النظام الاحتكاري الرّبوي العالمي ، بينما هو اليوم في ذروة صعوده وازدهاره التاريخي، يضع الأكثرية البشرية أمام أزمتين مهلكتين: أزمة الوقود وأزمة الغذاء! وبالطبع فإن الثانية هي التي تستحقّ أن تكون الأولى. ومن الغريب أن هاتين الأزمتين تعودان في جذورهما وأصولهما إلى حربين عالميتين، فأزمة الوقود تعود إلى الحرب العالمية الأولى وأزمة الغذاء تعود إلى الحرب العالمية الثانية، علماً أن الحربين لم تكونا من حيث دوافعهما الأساسية سوى صراعاً دمويّاً رهيباً شاملاً بين الاحتكارات المتحالفة والمتحاربة، الأميركية والأوروبية واليابانية!
تحويل المادة النبيلة إلى وضيعة!
دخل النفط ميادين الحياة الأممية جميعها في مطلع القرن العشرين مبرهناً على الفور وبقوة أنه الأداة المبدعة في الصناعة والإنتاج، وأنه السلاح الحاسم في الحروب والمواصلات، ناهيكم عن خصائصه الضرورية الأخرى العامة التي لا تعدّ ولا تحصى! ولو أن النفط وقع حينئذ في أيادي حكيمة وأمينة، تحدّد كمّياته المختزنة وخصائصه النادرة ووظائفه الثمينة، وتنظّم استخدامه حسب الأولويات لصالح البشرية جمعاء، آخذة بالاعتبار محدوديته وحتمية نضوبه، لكان ممكناً أن يبقى في الخدمة إلى أجل غير مسمّى، وأن يساعد في تنظيم الحياة الأمميةوتقدّمها وسلامها وأمنها ورخائها، غير أن هذه المادة الثمينة وقعت في أيدي المغامرين واللصوص وتجّار الحروب اللذين حوّلوها إلى مصدر للإثراء الفاحش والبذخ المشين، وأيضاً إلى سلاح مدمّر في الحروب ضدّ الأكثرية الساحقة من البشرية، فضمنوا باستخدامه إخضاعها والسيطرة على بلدانها وثرواتها، وفي الوقت نفسه أنهكوا كوكب الأرض بمجمله وعرّضوه لخطر الدمار الشامل نتيجة استخدام النفط استخداماً مفرطاً عبثيّاً وإجرامياً!
لقد حوّل الاحتكاريون الأوباش مادة النفط النبيلة إلى مادة وضيعة، فأصبحت وظائفها الرئيسة ضمان سيطرتهم ومضاعفة ثرواتهم باستمرار، وأصبحت أداة لخدمة أتفه وأحط رغبات الإنسان العادي في بلا دهم خاصة! وما الداعي لامتلاك كل أسرة أميركية، ثريّة أو فقيرة نسبياً، عدداً من السيارات(على سبيل المثال لا الحصر أيضاً) بكل ما ترتّب على ذلك من استهلاك شره مبذّر بل مبدّد للنفط بلا أدنى ضرورة مفهومة، وبكل ما ترتّب على ذلك من جحيم لا يطاق في شوارع المدن وعلى الطرقات الدولية، ومن تدمير شامل للبيئة والمناخ العام؟
إن السؤال البديهي، إنما الساذج، هو: لماذا لم يوضع النفط في خدمة مشاريع مواصلات عامة كافية وراقية ونظيفة واقتصادية، داخل البلد الواحد وبين البلدان جميعها؟ بالطبع لم يكن ذلك ممكناً أبداً، لأن اللذين يحكمون العالم هم شبكات من اللصوص الأوباش، الخبثاء أشدّ الخبث والجهلاء أشدّ الجهل في آن واحد! وقد اندفعوا ينتجون من السلع ما يلزم وما لا يلزم، وحافزهم دائماً هو الربح والربح بلا حدود وإلى ما لا نهاية، لا يتورّعون عن تلبية الاحتياجات الغريزية الفردية مهما كانت وضيعة وشاذّة!
وهكذا أوشك النفط اليوم على النضوب، وهو ما سيحدث على الأغلب قبل نهاية هذا القرن، وبما أن وظائف النفط دخلت في صميم أدقّ تفاصيل الحياة اليومية، والاستغناء عن هذه الوظائف لم يعد ممكناً أبداً وإلاّ انهار نظام الحياة السائد بكامله، فقد تحوّلوا إلى النباتات كمصدر للطاقة، وكبديل مؤقت أو دائم أو مساعد للنفط، فما الذي سوف يترتّب على ذلك؟
بعض ما فعلوه ببلدان الجنوب!
من جهة أخرى بدأت أزمة المواد الغذائية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتربّع واشنطن على عرش النظام الرأسمالي العالمي، فالتطور الهائل في البلدان الثريّة، الذي كان النفط أهم عوامله، دفع الاحتكاريين إلى تعطيل إمكانيات النمو والتطور في الجنوب بدلاً من أن يفعلوا العكس كما يفترض! لقد وضعوا أكثر من ثلثي البشرية في موقع هامشي جدّاً قياساً بالنمو المتسارع لحركة رأس المال الدولي والبضائع الدولية، فكبّلوها بالقروض الباهظة، وجعلوا موازينها التجارية في حالة عجز مزمن، وفرضوا عليها من أشكال الإدارة وأنماط الإنتاج والحياة ما يتناقض مع طبيعتها ومصالحها لأن ذلك يخدم مصالحهم!
لقد وقفت الولايات المتحدة وأوروبا واليابان متّحدة في مواجهة أي تطلّع مستقل للنمو والتطور في بلدان الجنوب، واعتمدت سياسات تحمي إنتاجها وأسواقها ضدّ منتجات وصادرات الجنوب، فبلغ الحال بعشرات من دول الجنوب أن عجزت ذات عام عن تغطية مستورداتها النفطية لشهر واحد! وقد انخفضت عموماً نسبة المنتجات الزراعية والحيوانية الجنوبية في الصادرات العالمية إلى النصف تقريباً، بينما استمرّت صادراتها من المواد الأولية في الارتفاع! وبينما كان ممكناً شراء جرّار زراعي بقوة ستين حصاناً مقابل 24 طنّاً من السكّر، فقد صارت قيمته لاحقاً 115 طنّاً ثم أكثر، وهكذا! كذلك كانت كميّة من القطن الجنوبي تتحوّل إلى قطعة قماش في الشمال، فتتقاضى الشركة الاحتكارية التي تسوّقها سعراً لها يزيد عن ثمانية دولارات، أما منتج كمية القطن فيتقاضى سعرها خمسين سنتاً فقط، أي حوالي 4% من سعر البيع!
أجبان الشمال في أرياف الجنوب!
لقد أوغل الاحتكاريون الشماليون في سياساتهم وارتكاباتهم المدمّرة للجنوب، فحصروا 70% من التبادل التجاري الدولي في ما بينهم وحدهم، بينما البلدان الفقيرة تتجه بأكثر من 70% من تجارتها إلى الشمال ، ويقتصر التبادل في ما بينها على ما نسبته 25% فقط، علماً أن ثلث صادرات دول الشمال إلى دول الجنوب تتوجه نحو بلدان فائض رأس المال النفطي لامتصاص هذا الفائض!
إن ما يستحق التركيز هنا هو التدمير المتعمّد لقطاعات الإنتاج الزراعي والحيواني في الجنوب، وذلك لحماية وتسويق ما يعادله في الشمال، فصرت ترى سلعاً غذائية كالجبن المحفوظ واللبن المبستر المصنّعة في الشمال تباع في أرياف الجنوب المدمّرة! وها هم اليوم يكتشفون الوقود الحيوي النباتي كبديل أو مساعد مؤقت للوقود الأحفوري النفطي خاصة، ويكتشفون أن القمح وقصب السكر والذرة هي من أهم مصادر الوقود الحيوي، فيتجهون على الفور لإنتاجها واستهلاكها كوقود بكميات خرافية، فما المصير الذي تنتظره حقولنا ومياهنا البائسة أمام هذا الاتجاه؟ وما مصير لقمة الفقراء عموماً وقد ذكرنا ارتفاع أسعار القمح مؤخراً 90% بينما ارتفعت أسعار فول الصويا 80%، وليس هذا سوى البداية؟ إلى أين المصير إذا كانت مادة القمح والسكر ستتحوّل إلى وقود للسيارات الأميركية؟
خبير دولي وقود الحيوي جريمة بحق الجياع في العالم
طالب جان زيغلر، المقرر الخاص بالأمم المتحدة حول الحق في الغذاء الجمعة، بوقف اختياري لمدة خمس سنوات لعمليات إنتاج الوقود الحيوي المستخرج من مواد غذائية واعتبر أن التأثير الذي تركه هذا النوع من الوقود على أسعار الغذاء حول العالم يمثل “جريمة ضد الإنسانية” بحق الفقراء.
وقال زيغلر إن تحويل المزروعات، مثل الذرة والقمح والسكر، إلى وقود يزيد من أسعار المواد الغذائية وتكلفة الأرض والمياه، وحذر من أن استمرار ازدياد الأسعار سيعيق الدول الفقيرة من استيراد الطعام الكافي لشعوبها.
وقال المقرر الخاص إن الجدال الدائر بشأن الوقود الحيوي “مشروع فيما يتعلق بترشيد استهلاك الطاقة ومكافحة آثار تغير المناخ،” إلا أن تحويل المحاصيل مثل الذرة والقمح إلى وقود زراعي “يمثل كارثة حقيقية للأشخاص الذين يعانون من الجوع وسيؤثر سلبا على تحقيق هدف الحق في الغذاء.”
وأضاف زيغلر، الذي كان يتحدث أمام الجمعية العامة لهيئة الدفاع عن حقوق الإنسان بالإمم المتحدة، إن تحويل الأرض الزراعية الخصبة إلى أرض تنتج مواد غذائية تحرق لإنتاج الوقودK ” جريمة ضد الإنسانية.”
وطالب الخبير الدولي بتعليق هذه النشاطات لمدة خمسة أعوام ريثما يتم تطوير آليات إنتاج الوقود من البقايا الزراعية والغذائية وليس من المنتجات مباشرة، على ما نقلته الأسوشيتد برس.
وقال زيغلر إن إنتاج الوقود الحيوي سيزيد من الجوع في العالم حيث يعاني 854 مليون شخص من الآفة، ويلقى 100.000 شخص حتفهم سنويا بسبب الجوع أو أمراض ناتجة عنه.
وأشار المقرر إلى أن هذا يحدث في عالم ينتج ما يكفي من الغذاء لإنتاج غذاء يكفي لنحو 12 مليار شخص، أي ضعف سكان الأرض الحاليين، بحسب منظمة الأغذية والزراعة.
وأكد زيغلر أن جميع أساب الجوع سببها الإنسان، فهي أولا وأخيرا مسألة الوصول إلى الطعام وليست زيادة عدد السكان أو قلة الإنتاج، ويمكن تغييرها بقرار من الإنسان.
كما دعا المقرر الخاص إلى اتخاذ تدابير لحماية اللاجئين الذين يفرون بسبب الجوع والمجاعة من بلادهم ويعاملون كالمجرمين عندما يحاولون عبور الحدود.
وأشار إلى أنه ما بين عام 1972 و2002 ارتفع عدد الأشخاص الذين يعانون من نقص التغذية في أفريقيا من 81 مليون إلى 202 مليون، ودعا مجلس حقوق الإنسان لإعلان حق إنساني جديد لحماية الفارين من الجوع، على ما نقله موقع الأمم المتحدة الإلكتروني.
وقال زيغلر إن الحق في الغذاء ” يعني الحق في الحصول على غذاء كاف ومستدام ومتناسب مع ثقافة كل شعب ويضمن حياة جسدية وعقلية سليمة ويمكن الأفراد والجماعات من العيش بكرامة ودون خوف”.
وللتأكيد على صحة استنتاجاته، أوضح الخبير الدولي أن إنتاج 13 ليتراً من الإيثانول يحتاج إلى أكثر من 231 كيلوغراماً من الذرة بينما يمكن لهذه الكمية تأمين الطعام لطفل جائع في زامبيا أو المكسيك لمدة عام كامل.
وكانت تقارير حديثة قد رجحت أن تسجل فاتورة واردات الحبوب لبلدان العجز الغذائي الفقيرة زيادة كبيرة للسنة الثانية على التوالي، لتبلغ رقما قياسيا مقداره 28 مليار دولار في الفترة ما بين 2007 و2008 وذلك بزيادة 14 في المائة عن العام الماضي، مما سيخلق ضغطاً كبيراً على موازنات تلك الدول.
وتوقعت التقارير أن تنفق البلدان النامية بشكل عام مبلغا قياسيا بحدود 52 مليار دولار على وارداتها من الحبوب، وخاصة القمح والذرة، وذلك بسبب قوانين السوق التي تشهد حالياً تراجعاً في الإمدادات العالمية مقابل ازدياد الطلب.
كما لفتت إلى أن ذلك سيؤثر بشدة على بلدان العجز الغذائي ذات الدخل المنخفض التي شهدت وستشهد اضطرابات اجتماعية في بعض المناطق.