نقلا عن موقع مركز الإمارات للدراسات والأبحاث الإستراتيجية
منذ انطلاق تمرد الحوثيين في محافظة صعدة اليمنية عام 2004 ضد النظام اليمني، وهو يثير التساؤلات حول حقيقة أهدافه وأبعاده المختلفة، والأسباب التي تدفع إلى تجدده بين كل فترة وأخرى، وطبيعة التعامل اليمني معه على المستويين، السياسي والأمني؟ فيما أضافت اتهامات الرئيس اليمني "علي عبد الله صالح" للحوثيين يوم 19 فبراير/شباط 2007 بتنفيذ مخطط خارجي وإقليمي على حساب المصلحة الوطنية لليمن، بعداً جديداً للقضية، وطرحت المزيد من علامات الاستفهام حول طبيعة هذا المخطط الخارجي والإقليمي؟.
لقد ظهرت "الحوثية" في نهاية التسعينيات بقيادة "حسين بدر الدين الحوثي" الذي أنشأ تنظيم "الشباب المؤمن" في عام 1997 بعد أن انشق عن حزب الحق الذي كان من القيادات البارزة فيه، وكان "الحوثي" عضواً سابقاً في مجلس النواب بعد فوزه في انتخابات عام 1993، وعلى الرغم من أن والده كان من أبرز المرجعيات الشيعية للمذهب الزيدي في اليمن، وهو أقرب مذاهب الشيعة إلى السنة، فإنه يبدو قريباً من المذهب الاثنى عشري الإمامي في إيران، وتمثل حركته خروجاً عن المذهب الشيعي الزيدي الذي يتبعه نحو 30 في المائة من سكان اليمن.
وظلت حركة "الحوثي" لسنوات طويلة حركة ثقافية فكرية دعوية بعيدة عن السياسية، بل إنها تلقت دعماً من حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم في سعيه لمواجهة النفوذ الديني لحزب التجمع اليمني للإصلاح الإسلامي المعارض، إلا أنه وبدءاً من عام 2002 بدأت الحركة تتجه إلى السياسة وتأخذ خط المعارضة ضد الحكومة والولايات المتحدة وإسرائيل. ومن هنا بدأت أولى مراحل الصراع بين الحوثي والسلطة في عام 2004، بعدما اتهمته السلطات اليمنية بادعاء الإمامة والمهدية والنبوة، ودفعت بعض علماء الزيدية إلى إصدار بيان أدان "انحرافاته" الفكرية وتهجمه على مقدسات الأمة. ولا يعترف المتمردون الحوثيون بشرعية النظام الحالي في اليمن على اعتبار أنه جاء للسلطة بانقلاب عسكري عام 1962 وأطاح بحكم الإمام الذي كان يتبع المذهب الزيدي الشيعي. وقد أدت المواجهات المسلحة بين الجانبين إلى مقتل نحو خمسمائة شخص وأكثر من ألفي جريح، وخسائر مادية قدرت بنحو ستمائة مليون دولار، وانتهت بمقتل "حسين بدر الدين الحوثي" نفسه.
المرحلة الثانية للصراع بدأت في فبراير/شباط 2005 بقيادة "الحوثي الأب"، وأسفرت عن اختفائه عن الساحة اليمنية، وتشير بعض التقارير إلى أنه قتل. أما المرحلة الثالثة فقد بدأت في أواخر عام 2005 وانتهت باتفاق بين الطرفين في فبراير 2006. ومع بداية عام 2007 بدأت المرحلة الرابعة للصراع بقيادة "عبد الملك"، أحد أبناء "الحوثي" وذلك على خلفية اتهام السلطات اليمنية للحوثيين بالعمل على طرد اليهود من محافظة صعدة.
وتحظى المرحلة الرابعة، التي ما زالت مستمرة، بأهمية خاصة مقارنة بسابقاتها لعدد من الأسباب، الأول: أنها جاءت بعد العفو العام الذي أصدره الرئيس اليمني عن الحوثيين في عام 2006، وهذا أوصل رسالة مهمة إلى السلطات اليمنية مفادها أن القوة ربما تكون هي الطريق الوحيد لإنهاء هذه المشكلة. والثاني: أن البعد الدولي يبدو أكثر بروزاً في هذه المرحلة بسبب العامل اليهودي فيها؛ حيث أفادت تقارير بأن بعض الدول الأوروبية بدأت تتحرك من أجل إدراج منظمة "الشباب المؤمن "ضمن المنظمات الإرهابية في العالم بسبب موقفها من اليهود. كما طالب رئيس اللجنة الفرعية حول الشرق الأوسط بمجلس النواب الأمريكي الرئيس صالح بتعهد حول حماية الجالية اليهودية في بلاده، وطلبت الخارجية الأمريكية من السفير اليمني في واشنطن إيضاحات حول القضية.
السبب الثالث: أن البرلمان اليمني طلب من الحكومة حسم التمرد الحوثي "بصورة نهائية"، وهذا يعني أن السلطات اليمنية ربما تكون قد حسمت أمرها بشكل نهائي لصالح خيار القوة في مواجهة الحوثيين، مستغلة عدة أمور منها: فشل الوسائل السلمية في إيقاف هذا التمرد خلال السنوات الماضية، والعداء الأمريكي والأوروبي للحوثيين بسبب استهدافهم لليهود، إضافة إلى الاتهامات الموجهة لهم بتلقي دعم خارجي من قبل إيران، وهو ما يضمن دعماً من قبل قوى إقليمية عربية لصنعاء في هذه المواجهة.
ورغم المواجهة المسلحة المستمرة بين الجانبين منذ عام 2004، فإن تمرد الحوثيين ما زال يمثل شوكة في خاصرة النظام اليمني، الذي لم يتمكن بعد من حسم هذا التمرد بصورة نهائية مثلما يطالب البرلمان، وذلك بالنظر إلى الكثير من التعقيدات والصعوبات التي تحيط بهذه القضية، فمن ناحية أولى تمكن جغرافية اليمن الجبلية أنصار "الحوثي" من الاحتماء بالجبال بصورة تمثل عائقاً أمام استهداف القوات الحكومية لهم. وهذه مشكلة تواجهها الحكومة اليمنية دائماً، وكان هذا واضحاً في حربها على الإرهاب التي استعانت فيها بدعم خارجي كبير خاصة من قبل الولايات المتحدة. ومن ناحية ثانية تشير التقارير المختلفة إلى توفر السلاح للحوثيين بشكل كبير، وذلك بالنظر إلى واقع ظاهرة انتشار السلاح في اليمن بشكل عام وسهولة الحصول عليه. ومن ناحية ثالثة استفاد الحوثيون من تردد الحكومة في حسم مواجهتهم منذ البداية، بل ودعمهم مالياً في بعض الأحيان من أجل استرضائهم.
ومن ناحية رابعة وبالنظر إلى أن حركة التمرد تلك هي حركة شيعية تتمركز في محافظة صعدة ذات الأغلبية الشيعية، فإن هذا يمثل كابحاً للحكومة في التعامل معها؛ حيث لا تريد أن تبدو وكأنها تعادي الشيعة في اليمن، خاصة أن الحوثيين يعملون على العزف على هذا الوتر لكسب التعاطف الداخلي والخارجي. ويذكر في هذا الإطار أن "حسين بدر الدين الحوثي" اشتكى إلى "آية الله السيستاني" المرجع الشيعي الأعلى في العراق، مما سماه اضطهاد السياسيين الزيديين في اليمن. كما أن الطابع القبلي المسيطر على اليمن يمثل هو الآخر عائقاً أمام السلطات اليمنية في المواجهة مع الحوثيين؛ حيث تشير المصادر المختلفة إلى أن هناك بعض القبائل التي تدعم الحوثيين بوازع الثأر من النظام الحاكم بسبب مقتل بعض أبنائها في المواجهات السابقة.
وتنبع خطورة تمرد الحوثيين في اليمن، من أنه ينطوي على أبعاد مختلفة يمكن أن تتسع بشكل يؤدي إلى تشابك وتداخل الخيوط بين الداخل والخارج، والسياسي والمذهبي، والداخلي والإقليمي بشكل خطير. ويتمثل البعد السياسي في اتهام الحوثيين للنظام اليمني بأنه نظام موال للولايات المتحدة وإسرائيل ومن ثم لابد من مواجهته. إلا أن هذا البعد يعد أقل الأبعاد تأثيراً في مسار الأزمة أو تعبيراً عن حقيقتها في مواجهة البعدين المذهبي والإقليمي.
وينبع البعد المذهبي من كون الحوثيين شيعة ينطلقون من منطلقات دينية مذهبية تعتمد على أنصار المذهب وترفع شعار المطالبة بحقوق الشيعة اليمنيين. والدولة من جانبها تركز أيضاً على معطيات مذهبية في مواجهتها لهم؛ إذ تتهمهم بالتآمر على النظام الجمهوري والتخطيط لإعادة نظام الإمامة، كما اتهمت الحوثي بادعاء الإمامة. ويكتسب هذا البعد أهميته من الإطار العام الذي يغزيه في المنطقة على ضوء التشنجات والتوترات الطائفية بين السنة والشيعة في أكثر من بلد عربي.
أما البعد الإقليمي فربما يكون أخطر أبعاد الأزمة. ويتمثل هذا البعد في اتهام اليمن لأطراف خارجية بالتورط في دعم الحوثي في إطار تصفية الحسابات الإقليمية الأوسع، وإدارة صراعات المنطقة. فتصريحات الرئيس اليمني التي اتهم فيها الحوثيين بتنفيذ مخططات خارجية، لم تكن الإشارة الأولى أو الوحيدة في هذا السياق؛ حيث وجهت الحكومة اليمنية أصابع الاتهام في مواجهات عامي 2004 و 2005 إلى أيادٍ خارجية، وأشار الرئيس اليمني صراحة إلى ذلك في لقاء مع صحيفة السفير اللبنانية في يوليو/تموز 2004 ولكن دون الإفصاح عن أسماء دول أو جماعات معينة. وخلال الفترة الأخيرة أخذت الاتهامات بعداً أكثر جدية وإفصاحاً، وبدأت بعض الأسماء تطرح على لسان بعض المصادر اليمنية، منها إيران وليبيا والجماعات الشيعية في بعض دول الخليج العربية؛ حيث تقول المصادر اليمنية إن التحقيقات التي تم إجراؤها مع بعض أنصار الحوثي كشفت عن ارتباطات له مع بعض المرجعيات الشيعية في العراق وإيران. وقد عزز البيان الذي أصدرته الحوزة العلمية في النجف ونشرته صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في أبريل/نيسان 2005 تحت عنوان "نداء إلى محافل حقوق الإنسان في العالم"، من الشكوك حول علاقة الحوثي مع مؤسسات شيعية خارجية؛ إذ انتقد البيان أسلوب تعامل الحكومة اليمنية مع تمرد الحوثيين، واتهم الرئيس اليمني بتبني خطاب طائفي ضد الشيعة اليمنيين. ويربط المراقبون بين الاتهامات الموجهة إلى إيران في هذا الخصوص، وبين ما يتم ترديده بخصوص التحرك الإيراني من أجل دعم الشيعة في المنطقة ككل وتمكينهم سياسياً أسوة بما حدث في العراق.أما بالنسبة إلى الاتهامات الموجهة إلى ليبيا، فإنهم يربطون بينها وبين احتمالات سعي طرابلس إلى تصفية حساباتها مع السعودية من خلال دعم المد الشيعي على حدودها.
على هذه الخلفية السابقة يمكن إبداء ملاحظتين مهمتين تمثلان دروساً من هذه الأزمة، الأولى: أن أزمة الحوثيين تأتي في سياق الانفجار الإقليمي لأزمات الأقليات في المنطقة، هذا الانفجار وإن كانت تختلف حدته من دولة لأخرى، إلا أنه يعكس حقيقة مهمة هي أن كثيراً من الدول العربية قد اهتمت ببناء الدولة بمؤسساتها وهياكلها المختلفة منذ الاستقلال، إلا أنها فشلت في بناء الأمة، ولهذا حينما تنهار مؤسسات الدولة، كما حدث في العراق بعد حرب 2003، أو تضعف وتقل قبضتها وتتراجع سطوتها، تبرز كل النزعات العرقية والمذهبية والدينية رافعة قفاز العصيان والتحدي في مواجهتها وكاشفة عن مجتمعات ممزقة لم تنصهر بعد ضمن إطار أمة متسقة. وهذا تحدٍ مصيري يواجه كل الدول العربية ذات المجتمعات غير المتجانسة اجتماعياً، ولابد من التعامل معه بموضوعية وجدية.
الملاحظة الثانية: أن التوتر الطائفي في المنطقة، ينتج بؤراً صراعية باستمرار؛ حيث بدأ الأمر بالعراق ثم امتد إلى لبنان واليمن. والخطر أن يستمر المسلسل ليشمل مناطق أخرى إذا ما استمرت مظاهر الشحن المذهبي والفرز الطائفي والتحريض على الصدام وإقصاء الأخر. وفي ذلك رسالة مهمة إلى كل الدول التي تشهد ثنائية السنة والشيعة في العالم العربي.