[color=red]ليس من شك في أن مصطلح «الأقليات» ليس دقيقا ولا يجوز اعتماده في دراسات علمية جادة.
فليس هناك تعريف علمي واحد لأية أقلية في الوطن العربي. وهناك جماعات تصنف في خانة الأقليات وتعد بعشرات الملايين. ومنهم، على سبيل المثال لا الحصر، الأكراد على المستوى العرقي وهم يتوزعون ما بين تركيا والعراق وإيران وسورية. ويقدر عددهم بحوالي 25 مليون كردي. وهناك الأقباط في مصر على المستوى الديني ويقدر عددهم بعشرة ملايين. وهناك الأمازيغ في دول شمال أفريقيا، ويقدر عددهم باكثر من عشرين مليون، ويطالبون باعتماد اللغة الأمازيغية لغة رسمية. يضاف إلى ذلك أن خارطة «الأقليات» في الوطن العربي تضم عددا كبيرا من الطوائف المسيحية، والإسلامية، واليهود، والصابئة، وجماعات العبادات المحلية في جنوب السودان. كما ان هناك أقليات عرقية كالأرمن، والشركس، والتركمان، والشيشان، وبقايا الجاليات الأوروبية، وغيرهم. وإجمالا يشكل المسلمون العرب السنة (بمدارسهم الفقهية الأربع)، والشيعي غير الباطني (بفرعيه الجعفري والزيدي) غالبية سكان العالم العربي البالغ عددهم اكثر من 200 مليون نسمة. وهنا تفتح «الشرق الأوسط» ملف الأقليات في العالم العربي وتبدأ أولا بوضع ظاهرة الأقليات في سياقها التاريخي والسياسي، ثم تعالج بشكل أكثر تفصيلا الحالات العربية التي شكلت فيها مسألة الأقليات قضية اشكالية بالتركثيز علي لبنان، العراق، السودان، والجزائر.
بعد أن وضعت بعض الدول الأوروبية كفرنسا وبريطانيا وروسيا السلطنة العثمانية تحت رقابة مشددة وعملت على تفكيكها واقتسام ولاياتها، برزت مشكلة الأقليات بصورة حادة في المنطقة العربية والبلقان. وكانت السلطنة العثمانية تميز بين الطبقة الحاكمة والرعايا، وتقسم الرعايا على أساس نظام الملل العثماني الذي أعطى لكل طائفة حق إدارة شؤونها الدينية بنفسها، وبناء مؤسساتها التربوية، والثقافية، والاجتماعية، وإدارة أوقافها عبر مجلس ملي لكل منها دون تدخل مباشر من جانب السلطنة. لكن نظام الملل العثماني الذي شكل نموذجا متطورا للتعايش بين المذاهب والطوائف والجماعات الدينية والفرق الصوفية وغيرها في مرحلة القوة التي امتدت طوال القرنين السادس والسابع عشر، تحول إلى عبء عليها في مرحلة الضعف. فقد أضعفت الهزائم العسكرية السلطنة منذ أواسط القرن الثامن عشر. وتجرأ الأوروبيون عليها بإرسال حملة نابوليون بونابرت إلى مصر في أواخر ذلك القرن، وتحديدا في سنوات 1798 . وكان نابوليون قد خطط لاحتلال مصر وبلاد الشام في طريقه لاحتلال الأستانة وإنهاء السلطنة العثمانية. إلا أن صمود الجزار في عكا احبط مخططه العسكري قبل أن يتلقى أسطوله البحري هزيمة كبيرة أمام الأسطول الإنكليزي في معركة أبي قير قرب الإسكندرية. يلاحظ في هذا المجال أن نابوليون قد اكثر من إصدار البيانات الموجهة إلى طوائف بلاد الشام ومصر بهدف استمالة زعمائها إليه تحت ستار إنقاذهم من الحكم العثماني الاستبدادي ومساعدتهم على إقامة أنظمة ديمقراطية على النمط الغربي تحمي الأقليات الدينية والعرقية واللغوية. ورغم فشل مشروعه السياسي والعسكري بات على السلطنة العثمانية أن تواجه مطالب تلك الأقليات في طلب الديمقراطية، والحريات العامة والفردية.
وقد واجهت السلطنة تلك المطالب بمزيد من القمع والإرهاب والممارسات الاستبدادية من جهة، والقبول ببعض الإصلاحات والتنظيمات المفروضة من الخارج الأوروبي على أمل إنقاذ وحدة السلطنة ومنعها من السقوط المبكر. لكن تلك التدابير زادتها ضعفا حتى وصفت عام 1853 بأنها اصبحت «جثة شبه مهترئة». بعد ذلك خاضت السلطنة حروبا خاسرة على جميع الجبهات، فخسرت تباعا الكثير من ولاياتها البلقانية والعربية، وانتهت إلى المزيد من الإفلاس الاقتصادي، والقروض الكبيرة بفوائد فاحشة. وسرعان ما تحولت مسألة الأقليات الدينية، والعرقية، والقومية، واللغوية، بالإضافة إلى التقسيمات القبلية والعشائرية، إلى منطلق لتدمير السلطنة من الداخل وقيام أنظمة من الحكم المحلي تحت السيطرة الأوروبية تحت أسماء متنوعة، منها الاحتلال المباشر، والحماية، والوصاية، وصولا إلى الانتداب بعد انهيار السلطنة النهائي في الحرب العالمية الأولى.
لذا يمكن التأكيد على أن «المسألة الشرقية» أو بالأحرى مسألة الأقليات التي انفجرت في السلطنة العثمانية إبان القرن التاسع عشر كانت بفعل إرهاصات داخلية تزامنت مع تدخلات أوروبية متزايدة للسيطرة على قرار السلطنة السياسي، والتحكم بقواها البشرية، واستنزاف مواردها الطبيعية.
أحلام الدولة ـ الأمة والموقف القومي العربي من مشكلة الأقليات إنطلاقا من شعارات رومانسية كثيرة منها «أرض العرب للعرب» كان لقادة الفكر القومي العربي مواقف متشنجة تجاه مسألة الأقليات القومية والإثنية واللغوية على امتداد الوطن العربي. ومارست بعض الدول العربية سياسة تعريب خاطئة أدت إلى حرمان الأقليات من حقوقها الطبيعية في التحدث بلغاتها والحفاظ على تراثها الثقافي من جهة، وإلى افتعال معركة ثقافية ما زالت مستمرة حتى الآن بين العربية واللغات الأوروبية الأخرى، خاصة الفرنسية في دول شمال أفريقيا العربية. وكان بالإمكان تجاوز تلك المعركة بسهولة من طريق تعليم الطلاب اللغتين معا أو ثلاث لغات كما يجري في المدارس اللبنانية مثلا. والواقع انه يمكننا تحليل أبعاد السياسة العربية تجاه موضوع الاقليات، انطلاقا من فهم ابعاد المشكلات الكبرى المتعلقة بها، وأبرزها: 1 ـ سياسة الدولة العربية الحديثة تجاه الأقليات في داخلها نشأت الدولة العربية الحديثة من طريق انضمام أو سلخ عدد من المقاطعات، أو الإمارات، أو المشيخات التي توحدت في دولة مركزية، بعد أن توفرت لها قيادات قديمة ـ جديدة كان عليها أن تتعاطى بشكل إيجابي مع خصوصيات مكوناتها الداخلية. وخلال مسيرتها الطويلة والتي تجاوزت أكثر من نصف قرن واجهت الدولة العربية الحديثة مشكلات عدة منها مشكلة الأقليات. فكان عليها إظهار مقدرتها على تجاوز الموروث القديم للحدود القبلية، والنزاعات العائلية، والتشنجات الطائفية والعرقية. وقد تمتعت بعض القيادات العربية بروح عالية من المسؤولية الوطنية والقومية مكنتها من تجاوز غالبية الحساسيات السابقة للزعماء المحليين، وصولا إلى بناء دولة حديثة منفتحة على العلوم العصرية، وتخطط لبناء مؤسسات قادرة على التكيف الإيجابي مع تحديات العولمة. وتعتبر تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة، من أرقى التجارب الوحدوية العربية في التاريخ الحديث والمعاصر. فقد رسخت دعائم الوحدة على أسس ثابتة لم تضطر معها إلى إعادة فرض التوحيد بالعنف أو الإكراه بعد ردة معاكسة، على غرار ما حدث في تجربة اليمن بعد توحيد شطريها الشمالي والجنوبي. وقد جمعت الدولة الجديدة سبع إمارات ومشيخات تقدمت جميعا بخطى مسرعة على طريق التقدم الاجتماعي والثقافي، والازدهار الاقتصادي، وبناء علاقات سليمة مع دول الجوار وباقي الدول العربية والعالمية. كما نجحت المملكة العربية السعودية، ومصر، وتونس، والمغرب، وسورية، والأردن وغيرها في تجاوز الكثير من سلبيات الموروث القبلي والطائفي. في حين أن دولا أخرى كالسودان، والعراق، ولبنان، ما زالت تعاني من الموروث السلبي للعهدين العثماني والأوروبي. فبناء الدولة الحديثة على أسس سليمة يتطلب تجاوز الانقسامات الطائفية والعرقية والقبلية الموروثة، والانتقال بها نحو المواطنية السليمة. 2 ـ اعتماد مبدأ المواطنة لحل مشكلة الأقليات يؤكد المفهوم الخلدوني للعصبية القبلية على أن بناء الدولة يفترض وجود عصبية دينية أو قبلية. إلا أن العصبية القبلية لا تنسجم بأي حال من الأحوال، مع طبيعة الدولة العصرية التي تعتمد في استمرارها وثباتها على تجاوز كل أشكال العصبيات السابقة على ولادة الدولة العصرية، وبناء الدولة الجديدة على أساس المواطنة والمساواة التامة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات. ففي الفصل التاسع من «المقدمة»، وهو بعنوان «في أن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة»، أشار ابن خلدون إلى «أن السبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء، وأن وراء كل رأي منها وهوى عصبية تمانع دونها فيكثر الانتقاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت وإن كانت ذات عصبية لأن كل عصبية ممن تحت يدها تظن في نفسها منعة وقوة». ويمكن التأكيد على أن معظم الزعامات القبلية أو العرقية أو الطائفية لم تكن تطمح إلى بناء دولة حديثة، أو لعلها تدرك الآفاق الوطنية المرجوة منها فتهرب نحو تحالف تقليدي يساهم في إعلاء شأنها، ويضمن لها نفوذها ومصالحها لعقود طويلة. وهنا تبرز أهمية الدور الرائد الذي تقوم به السلطة المركزية في الدولة الحديثة شرط أن تكون ديمقراطية وعادلة، وتعتمد الشفافية في اتخاذ القرارات، وتفضل مصلحة البلاد العليا على المصالح الشخصية. 3 ـ النزاعات الاجتماعية واثرها على تطور الأقليات في بعض الدول العربية شهدت الدول العربية تبدلات بنيوية مهمة في مختلف المجالات طوال النصف الثاني من القرن العشرين. فالبداوة التي كانت تشكل الغالبية الساحقة من دول الخليج العربي وفي كثير من الدول العربية الأخرى في أواسط القرن العشرين قد انحسرت بشكل حاد في نهاية ذلك القرن. وازداد التوسع الحضري بمعدلات كبيرة في معظم الدول العربية لدرجة أن بعض المدن العربية تضم نسبة كبيرة من السكان قد تصل إلى نصف سكان البلد. كذلك ارتفعت أعداد الريفيين بشكل ملحوظ على حساب انحسار البداوة والسكن الصحراوي. وبسبب سوء توزيع الثروة والمداخيل الوطنية والقومية تحولت ظاهرة التمدين السريع إلى أزمة حادة تعاني من نتائجها السلبية غالبية الدول العربية بعد ظهور أحياء مدينية فقيرة، وأكواخ البؤس، ومدن الصفيح، وتدني أو انعدام كل أشكال السكن الصحي فيها وتحولها إلى بؤر للفساد، والدعارة، وباتت أرضا خصبة لكل أشكال العداء للدولة المركزية. ونظرا لأن المشاركة في إدارة الدولة ومؤسساتها شكل مصدر غنى ونفوذ فإن غالبية الأقليات كانت مهمشة، وتعرضت لكل اشكال القمع والاستغلال. مما انعكس بصورة سلبية على أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، ودفع بأعداد كبيرة منها للسفر إلى الخارج. 4 - «العروبة الحضارية» كحل لمشكلة الأقليات اللغوية تنطلق مقولة «العروبة الحضارية أو العروبة الثقافية»، من واقع التطور التاريخي والثقافي للشعوب العربية. فقد كانت الجزيرة العربية مهد العرب، وعرفت في التاريخ بجزيرة العرب.
وكانت هذه الجزيرة موطن شعوب أخرى تتكلم بلغات هي والعربية من أصول واحدة، وتطورت لغاتها بعد خروجها من الجزيرة، وبقيت العربية أقرب إلى الأصل. ثم تعربت تلك الشعوب بصورة تدريجية، ودون ضغوط أو إكراه. كما دخل قسم كبير من تراث الأقليات في الحضارة العربية والإسلامية. وشهدت مرحلة ازدهار الحضارة العربية اتخاذ العربية لغة رسمية، وظهور الخط العربي، وانتشار اللغة العربية الأدبية إلى جنوب الجزيرة إضافة إلى شمالها، وازدهار الشعر العربي.
اخيرا ورغم ظهور مصالح واتجاهات متنافرة لزعماء الأقليات في الوطن العربي، فإن وحدة العرب ضرورة موضوعية تمليها تحديات عصر العولمة والسعي إلى إقامة تكتلات جغراسية واقتصادية وإعلامية وثقافية عملاقة. وفي مطلع القرن الحادي والعشرين، وخاصة بعد الاحتلال الأميركي للعراق، يبدو أن المقولات النقدية التي أطلقها الباحثون العرب لحل مشكلة الأقليات على أسس ديمقراطية سليمة بدأت تحظى باهتمام جدي من قبل بعض القيادات السياسية العربية. كما ان غلاة القوميين العرب الذين رفضوا الاعتراف بخصوصية المسألة الكردية واللغة الكردية في إطار عراق موحد، فوجئوا 2005 بتسلم الزعيم الكردي جلال الطالباني رئاسة الدولة في العراق، وتلاوة اليمين الدستورية بالعربية والكردية معا. ومن رفض منهم الاعتراف بخصوصية الأمازيغ في دول شمال أفريقيا العرب بدأوا يستمعون إلى إذاعات رسمية تذيع باللغة الأمازيغية وتعيد التذكير بتراث الأمازيغ غير العربي، وتاريخهم، وثقافتهم، وتقاليدهم. العالم العربي يتغير اذا.
* ما هي الأقليات في العالم العربي؟
* ادى النظر الى الجغرافيا الإثنية للعالم العربي يصح القول ان «الاكثرية» في المنطقة تتكون من العرب المسلمين بمذهبيهم الكبيرين السني (المدارس الفقهية الأربع)، والشيعي غير الباطني (الشيعة الجعفرية والزيدية تحديدا). اما كل الجماعات الاخرى عربية او غير عربية، مسلمة او غير مسلمة، فتندرج تحت ما يمكن وصفه ب«الاقليات».