[b]قانـون الرسـوم القضـائية.. مـاله وماعـليه
بقلم : د.مصطفي السعيد
تقدمت الحكومة بمشروع قانون بتعديل احكام قوانين الرسوم القضائية والتوثيق والشهر, ويهدف المشروع بصفة اساسية الي زيادة قيمة الرسوم الي عشرة امثالها, مع زيادة نسبة مايتم تحصيله عند رفع الدعوي المادة9.. وتحت ضغوط قادتها مجموعات في مجلس الشعب بما في ذلك مجموعات من الحزب الوطني الديمقراطي ونقابة المحامين, وافقت الحكومة علي تخفيض الزيادة الي خمسة امثالها, وأرجئ النظر في المادة9 والخاصة بتحديد نسبة مايتم تحصيله عند رفع الدعوي, حيث تم احالتها الي اللجنة التشريعية لمزيد من المناقشات, وبدون الوقوف كثيرا عند ماحاوله البعض من خلط للأوراق والخروج بالمناقشات عن موضوعيتها, فإن الخلاف يكاد يكون محدودا حول مبدأ ضرورة زيادة الرسوم القضائية.. فالقوانين الحالية, فيما عدا قانون الرسوم امام المحكمة العليا قد صدرت منذ اكثر من60 عاما, انخفضت خلالها قيمة النقود نتيجة ارتفاع الاسعار بأكثر من عشرة اضعاف, كما ان هناك حاجة ملحة لتحسين الخدمات القضائية التي يتم فرض هذه الرسوم مقابلها. وكلا الامرين يوجبان زيادة الرسوم..
ومع التسليم بمبدأ ضرورة الزيادة الا انني اتفق مع مااتجهت اليه غالبية الآراء من ان مضاعفة الرسوم الي عشرة امثالها, قفزة واحدة, لايتفق مع مبدأ تدرج الاعباء, خاصة في ظروف الازمة العالمية الحالية, وتأثر الاقتصاد المصري بها, ولقد احسنت الحكومة صنعا عندما وافقت علي تخفيض الزيادة الي خمسة امثال الرسوم الحالية بدلا من عشرة امثالها.
وبمناسبة اعادة مشروع التعديل الي اللجنة التشريعية بمجلس الشعب لمناقشته, فإن الامر لايجوز ان يقتصر علي مناقشة المادة9 الخاصة بنسبة مايسدد من رسوم نسبية عند رفع الدعوي, فمن خلال ممارستي للعمل القانوني في المحاماة والاستشارات القانونية والاقتصادية, ومن خلال دراستي المتأنية والموضوعية لقوانين الرسوم المصرية المشار اليها, وكذلك قوانين الرسوم في كثير من دول العالم المتقدم والنامي, يتضح وجود تناقضات اساسية وعدم اتساق وتوازن بين نصوص قوانين الرسوم المصرية, لم يتعرض لها مشروع قانون الحكومة بالتعديل والتصحيح, كما يتضح عدم دقة صياغة بعض النصوص, كما ان هناك رسوما قد فرضت دون ان يقابلها خدمة, وكذلك هناك رسوم مغالي فيها وبشدة, ولاتتناسب وتتوازي مع تكلفة الخدمة مما يخرجها عن طبيعتها الدستورية, وفيما يلي بعض الامثلة التي تؤيد ماتقدم:
المثال الاول: إن المثال الصارخ علي التناقض والمغالاة في قيمة الرسوم تجسد في المادة الاولي من القانون رقم1944/90 الخاص بالرسوم القضائية ورسوم التوثيق في المواد المدنية, اذ تفرق هذه المادة بين الدعاوي معلومة القيمة والدعاوي مجهولة القيمة, حيث تفرض الفقرة الاولي من هذه المادة علي الدعاوي معلومة القيمة رسوما نسبتها5% علي مايزيد علي4000 جنيه من قيمة الدعوي دون حد اقصي يضاف اليها2.5% رسوم خدمات تؤول حصيلتها الي صندوق لخدمات الصحية و الاجتماعية لاعضاء الهيئات القضائية, بالاضافة الي رسوم تكميلية عن الفوائد المستحقة من تاريخ رفع الدعوي حتي صدور الحكم. واخري علي مايطلب التنفيذ به عن المدة اللاحقة علي صدور الحكم لغاية يوم طلب التنفيذ, وذلك علاوة علي رسم التنفيذ المستحق الفقرة الخامسة من المادة75 من القانون رقم1994/90.
وعلي هذا النحو فإن الرسوم النسبية في الدعاوي المدينة تمكثل تقريبا من9% الي10% من قيمة الدعوي, وقد تصل بذلك, في كثير من الحالات, الي مئات الآلاف من الجنيهات والي الملايين في حالات اخري, هذا في الوقت الذي لاتزيد فيه الرسوم عن الدعاوي مجهولة القيمة عن عشرة جنيهات وفقا للقانون الحالي زيدت الي خمسين جنيها وفقا لما وافق عليه مجلس الشعب مضافا اليها رسم الخدمات بواقع2.5%.
ومن امثلة الدعاوي مجهولة القيمة دعاوي إفلاس, دعاوي طلب الحكم بإلغاء الرهن او الاختصاص او شطبهما, دعاوي التزوير الاصلية, والمعارضة في نزع الملكية, دعاوي حق الارتقاق.. الخ وهي دعاوي قد تستغرق وقتا وجهدا وبالتالي تكلفة تفوق الكثير من الدعاوي معلومة القيمة. و بالرجوع الي قوانين الرسوم في العديد من الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة وفرنسا وانجلترا وروسيا واسبانيا والدول النامية مثل بولندا والمجر وتايلاند والملايو وجنوب افريقيا.. الخ فإننا نجد ان بعض الدول كفرنسا لاتفرض رسوما علي الاطلاع في بعض الحالات, والبعض الاخر يفرض رسوما ثابتة, وفي الحالات جميعا التي يفرض فيها رسوم نسبية يتم تحديد حد أقصي لهذه الرسوم, تتراوح قيمتها بين مايعادل11000 جنيه في انجلترا,262000 جنيه في المانيا. هذه المغالاة الشديدة في قيمة الرسوم النسبية في مصر الناجمة عن عدم فرض حد أقصي لها يتأثر بسلبياتها الفقير ومتوسط الحال قبل الغني, اذ ان الاخير لديه من السعة لتحملها. كما يتأثر بها الدائن للغني قبل الدائن للفقير, فدين الغني مرتفع القيمة وكذلك الرسوم المستحقة,
والدائن الصادر الحكم لصالحه هو للاسف الذي يقوم بسداد الرسوم حتي يستطيع التنفيذ,وعليه ان يشقي ليحصل من مدينه علي هذه الرسوم.. بل والاكثر من ذلك فإن المدين الغني هو الذي قد يستفيد من المغالاة في الرسوم, اذ يضطر الدائن الي التنازل عن جزء من دينه ويتصالح مع مدينه ليتفادي بطء اجراءات التقاضي واحتمال سدادها برسوم مغالي فيها..
فضلا عما تقدم فإن المغالاة في الرسوم النسبية لتصل الي الملايين من الجنيهات مما لاتتناسب مع تكلفة الخدمة, واستمرار وجود عدم العدالة والتوازن بينهما وبين تلك المفروضة علي الدعاوي مجهولة القيمة من شأنه ان يدعو الي بذل كل الجهود للتهرب وتفادي سدادها, وهذه ماتؤكده زيادة قيمة المتأخرات من الرسوم النسبية وتراكمها لدي وزارة العدل, ان الحقائق الاقتصادية تشير الي ان تخفيض الرسوم في هذا الحالة قد يؤدي الي زيادة ايرادات حصيلة وزارةالعدل الاجمالية لا الي تخفيضها, لما قد يؤدي اليه ذلك من اقبال المتقاضين علي سداد هذه الرسوم لإيمانهم بعدالتها و عدم تضخمها.
واخيرا فإن وضع حد اقصي للرسوم النسبية من شأنه ان يسهم في قبول مبدأ زيادة نسبة مايتم سداده من الرسوم النسبية عند رفع الدعوي, فحيث لاتوجد مغالاة فيما يفرض من رسوم يسدد بأن ذلك من شأنه ان تقلل من احتمالات الاعتراض علي سداد جزء اكبر من هذه الرسوم عند رفع الدعوي.ان الحجج التي يتذرع بها البعض ممن يدافعون عن هذا التفاوت الصارخ وغير العادل بين مايفرض من رسوم علي الدعاوي معلومة القيمة مقارنة بالدعاوي مجهولة القيمة ترتكز علي امور ثلاثة وهي:
الأمر الاول: القول بأن هذه الرسوم النسبية تلعب بتضخمها دورا في الحد من الدعاوي الكيدية والتي ترفع دون ان تساندها مبررات قانونية قوية.. هذه الحجة يسهل دحضها, اذا مااخذنا في الاعتبار ان في الوقت الذي قد ترفع فيه بعض الدعاوي الكيدية.. وهذا استثناء, فإن هناك غالبية الدعاوي التي يرفعها حسنو النية والتي تتعادل فيها احتمالات القبول او الرفض, وان وضع القيود علي اصحاب هذه الدعاوي بتضخيم الرسم يهدر حقا مهما من حقوق الانسان, وهو اللجوء الي ساحة العدالة لما قد يراه هو انه حق.. وعلي اية حال فإن القاعدة انه لايجوز سن التشريع تأسيسا علي ماهو استثنائي, وان الاصل في المتقاضي انه حسن النية.
الامر الثاني: القول بأن هذه الرسوم النسبية المغالي فيها, ومايضاف اليها من رسوم خدمات ورسوم تكميلية تزيد من ايرادات وزارة العدل, التي يمكن استخدامها في تحسين خدمات العدل بما في ذلك بناء المحاكم, والخدمات الصحية والاجتماعية لاعضاء الهيئآت القضائية,. هذا القول يصعب قبوله, فالاصل ان تكلفة خدمة العدالة هي مسئولية الدولة اساسا يتم توفيرها من موارد الموازنة العامة.. وان الاخذ بغير هذا المبدأ يقضي علي احد المبادئ الاساسية التي تقوم عليها الموازنة العامة, وهو مبدأ وحدة الموازنة العامة, والذي يقضي بأن كل الايرادات يجب ان تذهب للخزانة العامة التي تقوم بتوزيعها بين الاستخدامات المختلفة وفقا لمعايير تقترحها الحكومة ويوافق عليها مجلس الشعب.. والقول بأن يكون لكل وزارة ايراداتها المستقلة التي تنفقها بنفسها ومباشرة علي احتياجاتها, يخل بمبدأ وحدة الموازنة العامة, ويفتح الباب واسعا لتقوم كل وزارة بفرض رسوم خاصة بها, وان تغالي في ذلك بحجة الوفاء باحتياجاتها المهمة المتزايدة.. ولنا ان نتصور الحال اذا جاءت وزارة التعليم, وفرضت المزيد من الرسوم الدراسية,
وتبعتها وزارات الخدمات الاخري كالصحة والنقل وا لداخلية.. وغيرها من الوزارت في ذلك, ان الارتقاء بمرفق القضاء ورجاله هدف نتفق عليه جميعا ولكن لايمكن ان تكون وسيلته المغالاة في زيادة الرسوم وعدم اتساقها وتناقضها.
الأمر الثالث: اما عن القول بأن الاقتراح غير دستوري, فإن سند السيد وزير العدل في ذلك هو الحكم الصادر في القضية رقم23 لسنة22 ق هـ دستورية عليا بتاريخ9 يونيو لسنة.2002 ان السيد وزير العدل علي حق عندما يقول ان هذا الحكم قد اجاز ان تكون الرسوم نسبية, ولكن سيادته متفق علي ان هذا الحكم لم يقل ان فرض حد اقصي للرسوم النسبية غير دستوري, وهناك امثلة كثيرة لوضع حد اقصي للرسوم النسبية, من اهمها وضع حد اقصي لرسوم التسجيل العقاري وهي رسوم نسبية, كما يتفق سيادته معي فيما اكدته المحكمة الدستورية العليا, في الحكم المستند اليه. وفي غيره من الاحكام,. وفي التفرقة بين الضريبة العامة والرسم, فالضريبة العامة فريضة تقتضيها الدولة جبرا من المكلفين بأدائها, اسهاما من جهتهم في الاعباء العامة, دون ان يقابلها نفع خاص يعود عليهم من وراء التحمل بها, في حين ان مناط استحقاق الرسم قانونا ان يكون مقابل خدمة محددة بذلها الشخص العام لمن طلبها كمقابل لتكلفتها, وان لم يكن بمقدارها, ولقد اكدت المحكمةالدستورية العليا في الكثير من احكامها ضرورة التناسب.
وليس بالضرورة التماثل في المقدار بين الرسم والتكلفة, راجع في ذلك موسوعة المبادئ الدستورية ـ الجزء الثاني ـ اكتوبر2000 الصادرة عن مجلس الشعب ص1276, ولقد جاء بها أن الرسوم تقتضيها الدولة بمناسبة عمل أو أعمال محددة بذاتها انتهاء بعد طلبها منها, فلا يكون حصولها علي مقابل يناسبها ـ وإن لم يكن يقدر تكلفتها ـ إلا جزاء عادلا عنها, ومن ثم يكون هذه الأعمال مناط فرضها وبما يوازيها.
المثال الثاني: إن هناك نصوصا في القوانين القائمة تفرض رسوما دون ان يقابلها خدمة, الأمر الذي يتناقض بوضوح مع الطبيعة القانونية والدستورية للرسوم التي لايجوز فرضها إلا في مقابل خدمة محددة, ومن أمثلة هذه النصوص ماتفرضه الفقرة5 من المادة75, من القانون رقم90 لسنة1994, التي تقضي بفرض رسوم نسبية وتكميلية علي المبالغ التي يطلب التنفيذ بها, من تاريخ الحكم حتي تاريخ طلب التنفيذ.
المثال الثالث: وجود تضارب في صياغة بعض النصوص, وعلي سبيل المثال ما قد نلاحظه علي المادة64 الواردة بالباب الثالث من القانون90 لسنة1994, والخاصة بقواعد تقدير الرسوم اذ تنص علي ان يكون الأساس عند تقدير الرسوم النسبية هو المبالغ التي يطلب الحكم بها, بينما هناك الكثير من النصوص في المادة9 من نفس القانون تتحدث علي تسوية الرسوم وفقا لما يحكم به. مما تقدم يتضح ضرورة مراجعة شاملة لنصوص قوانين الرسوم حتي يأتي مشروع القانون خاليا من التناقضات وعدم الاتساق بين النصوص.. إلخ. وفي النهاية يتطلب مراعاة مجموعة من المعايير والمبادئ الأساسية عند صياغة التعديلات المطلوبة وهي:
1 ـ إن التقاضي حق مصون تكلفه الدولة, ولايجوز للمشرع وفقا لعبارات المحكمة الدستورية العليا, ان يرهق هذا الحق بقيود تعسر الحصول عليه.
2 ـ إن من حق الدولة ان تفرض رسوما قضائية, ومن حقها ان تعيد النظر في قيمة الرسم من وقت إلي آخر مع زيادة قيمة التكلفة, بشرط ان يكون ذلك مقابل خدمة محددة ومع ضرورة التناسب وليس بالضرورة التماثل بين تكلفة الخدمة والرسم, ومن حق الدولة ان تفرض رسوما نسبية.. ومن حقها, بل ومن واجبها تحقيقا لمصلحتها ومصلحة المجتمع, ان تضع حدا أقصي لهذه الرسوم النسبية, كما هو حادث في الدول المتقدمة والنامية.
3 ـ ان التفاوت بين الرسوم لابد أن يتناسب ويتوازن مع التفاوت في تكلفة الخدمات المختلفة.. وهذا يتطلب, بالضرورة وضع حد أقصي علي الرسوم النسبية لتناسب وتتوازن مع الرسوم الثابتة.